كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو أمامة: يا عَمْرو! انظر ما تقول. سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أَيُعْطى هذا الرجل كله في مقامه؟ قال عَمْرو بن عَبَسة: يا أبا أمامة! لقد كبر سني ورقّ عظمي واقترب أجلي. وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ مرة أو مرتين أو ثلاثًا. لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك.. قال ابن كثير: وإسناده صحيح وهو في «صحيح مسلم» من وجه آخر، وفيه: ثم يغسل قدميه كما أمره الله. فدلّ على أن القرآن يأمر بالغسل. وهكذا روى أبو إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال: اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم. ومن هاهنا يتضح لك المراد من حديث عبدُ خَير عن عليّ، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما. إنما أراد غسلًا خفيفًا وهما في النعلين». ولا مانع من إيجاد الغسل والرّجل في نعلها. ويكون في هذا ردّ على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين. وهكذا ما رواه ابن جرير عن حذيفة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قومٍ فبال قائمًا ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه. وهو حديث صحيح. وقد أجاب ابن جرير عنه: بأن الثقات الحفاظ رووه عن حذيفة: فبال قائمًا ثم توضأ ومسح على خفيه. قال ابن كثير: ويحتمل الجمع بينهما. بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان.
وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أوس بن أبي أوس قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة». ورواه أبو داود عنه بلفظ: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه». ثم قال الجمهور: إن قراءة الجرّ محمولة على الجوّ الجواريّ. ونظيره كثير في القرآن والشعر. كقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] و: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] بالجرّ في قراءة حمزة والكسائي عطفًا على: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة: 18] والمعنى مختلف. إذ ليس المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين. وكقولهم: جحرٍ ضبٍ خربٍ، وللنحاة باب في ذلك. حتى تعدوا، من اعتباره في الإعراب، إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك. وقد ساق شذرة من أشباهه ونظائره أبو البقاء هنا. فانظره. وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجواز «زعمًا بأنه خاص بالنعت والتأكيد» مردود بأنه ورد في العطف كثيرًا في كلام العرب. قال الشاعر:
لم يبق إلاّ أسير غير منفلتٍ ** وموثقٍ في عقال الأسر مكبول

فخفض «موثقًا» بالمجاورة للمنفلت- وحقه الرفع عطفًا على «أسير». وقال:
فهل أنت- إن ماتت أتانك- راحلٌ ** إلى آل بسطام بن قيس فخاطبِ

فجرّ «فخاطب» للمجاورة. وحقه الرفع عطفًا على «راحل». وكفى في الردّ قراءة «وحورٍ» بالجرّ كما قدّمنا. قالوا: وشرط حسن الجرّ الجواريّ عدم الإلباس مع تضمن نكتة. وهنا كذلك. فإن الغاية دلت أنه ليس بممسوح. إذ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة. والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيفه حتى كأنه مسح. قال الناصر في الانتصاف: والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان، من حيث إن كل واحد منهما إمساس بالعضو. فيسهل عطف الغسول على المسوح من ثَمَّ- كقوله: متقلدًا سيفًا ورمحًا. وعلفتها تبنًا وماء باردًا- ونظائره كثيرة. وبهذا وجّه الحذاق. ثم يقال: ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب؟ وهلًا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة؟ فيقال: فائدته الإيجاز والاختصار وتوكيد الفائدة- بما ذكره الزمخشري- أي: من أنّ الأرجل لما كانت مظنة للإسراف المذموم المنهيّ عنه، فعطف على الرابع المسوح، لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصار في صبّ الماء عليها. ثم قال الناصر: وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلًا: واغسلوا أرجلكم غسلًا خفيفًا لا إسراف فيه كما هو المعتاد، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح. ونبه بهذا التشريك، الذي لا يكون إلاّ في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدًّا، على أن الغسل المطلوب في الأرجل، غسل خفيف يقارب المسح. وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة. انتهى.
وأما من أوجب الجمع بين المسح والغسل فأخْذًا بالجمع بين القراءتين. ومراد من ذهب إلى وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما. فحكاه من حكاه كذلك. ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء، وهو معذور. فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه. وإنما أراد ما ذكرته والله أعلم. ثم تأملت كلامه أيضًا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} خفضًا على المسح وهو الدلك، ونصبًا على الغسل، فأوجبهما أخذًا بالجمع بين هذه وهذه. انتهى.
وأما من قال: الواجب هو المسح، فتمسك بقراءة الجر، وهو مذهب الإمامية. وأجابوا عن قراء النصب بأنها مقتضية للمسح أيضًا. وقد وقفت على كتاب «شرح المقنعة» من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث، ووجه اقتضاء النصب للمسح بأن موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل، الذي هو المسح عليه. قال: وعلى هذا لا ينكر أن يعطف الأرجل على موقع الرؤوس لا لفظها فينصب، والعطف على الموضع جائز مشهور في لغة العرب. ثم ساق الشواهد في ذلك وقال بعد: فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون القراءة بالنصب لا تقتضي الغسل، فلا تحتمل المسح. لأن عطف الأرجل على مواضع الرؤوس في الإيجاب توسّع وتجوّز. والظاهر والحقيقة يوجبان عطفها على اللفظ لا الموضع، قلنا: ليس الأمر على ما توهمتم، بل العطف على الموضع مستحسن في لغة العرب، وجائز لا على سبيل الاتساع والعدول عن الحقيقة. فالمتكلم مخير بين حمل الأعراب على اللفظ تارةً، وبين حيله على الموضع أخرى.
قال: وهذا ظاهر في العربية مشهور عند أهلها، وفي القرآن والشعر له نظائر كثيرة. ثم قال: على أنّا لو سلمنا أن العطف على اللفظ أقوى، لكان عطف الأرجل على موضع الرؤوس أولى، مع القراءة بالنصب،لأن نصب الأرجل لا يكون إلاّ على أحد وجهين: إما بأن يعطف على الأيدي والوجوه في الغسل،أو يعطف على موضع الرؤوس فينصب، ويكون حكمها المسح. وعطفها على موضع الرؤوس أولى. وذلك أن الكلام إذا حصل فيه عاملان، أحدهما قريب والآخر بعيد، فإعمال الأقرب أولى من إعمال الأبعد. وقد نص أهل العربية على هذا في باب التنازع. انتهى. فتأمّل جدلهم.
قال الحافظ ابن كثير: وقد روي عن طائفة من السلف بالمسح: فروى ابن جرير عن حميد قال: قال موسى بن أنس ونحن عنده: يا أبا حمزة! إن الحجاج خطبنا بالأهواز، ونحن معه. فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم. وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه.
فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج. قال الله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}.
قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.
قال ابن كثير: إسناده صحيح إليه.
وروى ابن جرير أيضًا عن عاصم عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة بالغسل. وإسناده صحيح أيضًا.
وأسند أيضًا عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال: الوضوء غسلان ومسحتان.
وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}، قال: هو المسح. ثم قال: وروى ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن عليّ والحسن «في إحدى الروايات» وجابر بن يزيد ومجاهد في إحدى الروايتين نحوه. وروى ابن جرير عن أيوب قال: رأيت عِكْرِمَة يمسح على رجليه. وعن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح. ألا ترى أنّ التيمم، أن يمسح ما كان غسلًا ويلغي ما كان مسحًا؟
وأمّا من ذهب إلى التخيير، فقال: لما جاءت القراءة بما يوجب الغسل وبما يوجب المسح، دل على أنه مخير. قال في «الشفا»: القراءتان لا توجبان الجمع، بل تثبتان التخيير.
ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح. كما قال ابن عباس وغيره. وإيثار غسلهما في المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، إنما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته صلى الله عليه وسلم، فإنه سنّ في كل فرضٍ سننًا تدعمه وتقويه. في الصلاة والزكاة والصوم والحج. وكذا في الطهارات كما لا يخفى، ومما يدلّ على أن واجبهما المسح، تشريع المسح على الخفين والجوربين. ولا سند له إلا هذه الآية. فإن كل سنة أصلها في كتاب الله، منطوقًا أو مفهومًا، فاعرف ذلك واحتفظ به، والله الهادي.
فصل:
فيما قاله الصوفية- قدس الله سرهم- من أسرار طهارة هذه الأعضاء:
فأما الوجه، فإنما وجب غسله لأن فيه أكثر الحواس الظاهرة التي ينتفع بالمحسوسات بواسطتها، فلابد من تطهيره عن ظهور آثار حدثت عنها، ولسبق الإحساس على العمل، قدم ما فيه أكثر الحواس الظاهرة أي: غير السمع. ثم أمر بتطهير الآلة الفاعلية للأفعال، التي منها تلك الآثار- وهي الأيدي إلى المرافق- لأن العمل بالأصابع يحتاج إلى تحريك الكف التي لا تتحرك غالبًا إلاّ بتحريك المرافق، ثم أمر بمسح الرأس لأنه جامع للحواس الباطنة، فأشبه جامع الحواس الظاهرة، وأخره عن غسل اليدين لأنه مخزن الصور المدركة بالحواس الظاهرة من أعماله وغيرهما. ولم يأمر بغسله لأنه يضر بصاحب الشعر، ولابد منه في الزينة، لاسيّما للمرأة، فخفف بالمسح. ثم أوجب غسل آلة السعي لمشابهة آلة العمل وهي الأرجل، ولما كانت حركتها توجب حركة جميع البدن، اقتصر على أدنى الغايات، أعني: الكعبين، لئلا تبطل فائدة تخصيص الأعضاء، وفي الفصل بين المغسولات بالممسوح إيماء إلى وجوب الترتيب، والسرّ فيه ما أشرنا إليه. كذا في تفسير «المهايميّ».
وذكر الشعراني- قُدِّس سره- في سرّ ذلك، أن الوجه به حصول المواجهة في حضرة الله تعالى عند خطابه، والشرع قد تبع العرف في ذلك، وإلاّ فكل جزء من بدن العبد- ظاهرًا وباطنًا- ظاهر للحق تعالى من العبد. أمر الله تعالى العبد بالتوبة فورًا. مسارعة للتطهير من النجاسة المعنوية. لأن الماء لا يصل إلى القلب. فافهم. ثم وجه قول الجمهور بدخول المرفقين في اليدين بأنهما محل الارتفاق. وتكمل الحركة بهما في فعل المخالفات. ووجّه قول زفر وداود، بأنهما لم يتمحضا للذراعين، لأنهما مجموع شيئين: إبرة الذراع ورأس العظمين، ثم وجّه مسح جميع الرأس، بالأخذ بالاحتياط. فيمسح جميع محل الرياسة التي عند المتوضئ ليخرج عن الكبر الذي في ضمنها، ويمكن من دخول حضرة الله تعالى في الصلاة. فإن من كان عنده مثقال ذرة من كبر لا يمكن من دخوله الجنة يوم القيامة، كما ورد، إذ هي الحضرة الخاصة، وكذلك القول في حضرة الصلاة. ثم وجّه غسل القدمين بمؤاخذة العبد بالمشي بهما في غير طاعة الله عزّ وجل، وكونهما حاملَيْن للجسم كلّه. وممدين له بالقوة على المشي، فإذا ضعفا بالمخالفة أو الغفلة سرى ذلك فيما حملاه، كما يسري منهما القوة إلى ما فوقهما إذا غسل، فإنهما كعروق الشجرة التي تشرب الماء وتمدّ الأغصان بالأوراق والثمار. فتعين فيهما الغسل دون المسح، ثم ذكر سرَّ من ذهب إلى وجوب الموالاة في طهارة أعضاء الوضوء، بأن الغالب على المتطهرين ضعف أبدانهم من كثرة المعاصي، أو الغفلات، أو الشهوات، وإذا لم يكن موالاة جفت الأعضاء كلها قبل القيام إلى الصلاة، مثلًا. وإذا جفت فكأنها لم تغسل ولم تكتسب بالماء انتعاشًا. ولا حياة تقف بها بين يدي ربها. فخاطبت ربها بلا كمال لحضور ولا إقبال على مناجاته. هذا حكم غالب الأبدان، أما أبدان العلماء العاملين وغيرهم من الصالحين، فلا يحتاجون إلى تشديدٍ في أمر الموالاة لحياة أبدانهم بالماء.
ولو طال الفصل بين غسل أعضائهم. فيحمل قول من قال بوجوب الموالاة على طهارة عوام الناس. ويحمل قول من قال بالاستحباب على طهارة علمائهم وصالحيهم.
وسمعت سيدي عليًّا الخوّاص، رحمه الله تعالى، يقول: نِعْمَ قول من قال بوجوب الموالاة في هذا الزمان. فإنّ من لم يوجبها يؤدي قوله إلى جواز طول الفصل جدًّا. وزيادة البطء في زمن الطهارة، وفوات أول الوقت، كأن يغسل وجه في الوضوء للظهر بعد صلاة الصبح. ثم يغسل يديه ربع النهار. ثم يمسح رأسه بعد زوال الشمس. ثم يغسل رجليه قبيل العصر. مع وقوع ذلك المتوضئ مثلًا، في الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والضحك والغفلة. وغير ذلك من المعاصي والمكروهات. أو خلاف الأولى إن كان ممن يؤاخذ به كما يؤاخذ بأكل الشهوات. فمثل هذا الوضوء، وإن كان صحيحًا في ظاهر الشرع- من حيث إنه يصدق عليه إنه وضوء كامل- فهو قليل النفع لعدم حصول حياة الأعضاء به بعد موتها أو ضعفها أو فتورها. ففات بذلك حكمة الأمر بالموالاة في الوضوء- وجوبًا استحبابًا- وهي إنعاش البدن وحياته قبل الوقوف بين يدي الله تعالى للمناجاة. ثم لو قدر عدم وقوع ذلك المتوضئ، الذي لم يوال، في معصية أو غفلة في الزمن المتخلل بين غسل الأعضاء. فالبدن ناشف كالأعضاء التي عمتها الغفلة والسهو والملل والسآمة. فلم يَصِرْ لها داعية إلى كمال الإقبال على الله تعالى حال مناجاته.